فصل: تفسير الآية رقم (10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

أقطارُ السمواتِ والأرضِ نواحيها‏.‏ أي إِنْ قدرتم أن تخرجوا من مُلْكِه فاخرجوا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ‏}‏‏.‏ أي لا تَصِلون إلى موضع إلاَّ وهنا سلطاني ومُلْكي ولا تنفذون في قُطْرٍ إلا وهناك عليكم حجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ‏(‏35‏)‏‏}‏

أي فلا تنتقمان‏.‏ والشواظُ‏:‏ اللَّهَبُ من النار لا دخانَ معه‏.‏ والنحاس‏:‏ الصُّفْرُ المذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ينفكُّ بعضها عن بعض وتصير في لون الورد الأحمر‏.‏ ويقال‏:‏ بها الفُرُش الموردة كالدهان وهو جمع دهن‏.‏ أي كدهن الزيت وهو دردي الزيت‏.‏

ويقال‏:‏ كما أن الوردة يتلوَّن لونُها؛ إذ تكون في الربيع إلى الصُّفْرة، فإذا اشتدت الوردة كانت حمراء، وبعد ذلك إلى الغبرة فكذلك حالُ السماء تتلون من وصفٍ إلى وصفٍ في القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ‏(‏39‏)‏‏}‏

أراد في بعض أحوال القيامة لا يُسألون، ويُسْأَلون في البعض فيومُ القيامة طوِيلٌ‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا كانت لهم يومئدٍ علامات‏:‏ فللكفارِ سوادُ الوجه وزُرْقَةُ العين، وللمسلمين بياض الوجه وغير ذلك من العلامات فالملائكة لا يحتاجون إلى سؤالهم‏:‏ من أنتم‏؟‏ لأنهم يعرفون كُلاًّ بسيماهم‏.‏

ويقال‏:‏ لا يُسْأَلون سؤالاً يكون لهم ويُسْأَلون سؤالاً يكون عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

المؤمنون غُرٌّ مُحَجَّلُون، والكفَّارُ سود الوجوهِ زُرْقُ العيون، فيعرف الملائكة هؤلاء فيأخذون بنواصيهم ويَجُرُّونهم مرة ومرةً بأقدامهم ثم يلقونُهم في النار، ويطرحونهم في جهنم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏43‏)‏ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

يقال لهم‏:‏ هذه جهنم التي كنتم بها تكذبون‏!‏

‏{‏حَمِيمٍ‏}‏‏:‏ ماءٌ حارٌّ‏.‏ ‏{‏ءَانٍ‏}‏ تناهى في النضج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

يقال‏:‏ لِمَنْ خاف قُرْبَ ربِّه منه واطلاعه عليه‏.‏

ويقال‏:‏ لمن خالف وقوفَه غداً بين يدي الله- جنتان، ولفظة التثنية هنا على العادة في قولهم‏:‏ خليليَّ ونحوه‏.‏

وقيل‏:‏ بل جنتان على الحقيقة، ومُعَجَّلة في الدنيا من حلاوة الطاعة وروح الوقت، ومؤجَّلة في الآخرة وهي جنة الثواب‏.‏ ثم هم مختلفون في جنات الدنيا على مقادير أحوالهم كما يختلفون في الآخرة على حسب درجاتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ‏(‏48‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏49‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ‏(‏50‏)‏‏}‏

دلَّ على أن الجنتين في الآخرة‏.‏ والأفنانِ الأغصان‏.‏ وهي جمع فنن‏.‏

ويقال‏:‏ ذواتا ألوانٍ من كلِّ صنفٍ ولونٍ تشتهيه النَّفْسُ والعينُ- وتكون جمع فن‏.‏ ‏{‏فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ‏}‏ إحداهما التنسيم، والاخرى السلسبيل‏.‏

ويقال‏:‏ عينان تجريان غداً لمن كان له- اليومَ- عينان تجريان بالدموع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

زوجان أي صِنْفان وضَرْبان؛ كالرطب واليابس، والعنب والزبيب‏.‏

ويقال‏:‏ إنها في نهاية الحسن والجودة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

بطائنها من استبرق فكيف بظهائرها‏؟‏ «والبطائن»‏:‏ ما يلي الأرض‏.‏ «والاستبرق»‏:‏ الديباج الغليظ‏.‏ وإنما خاطَبَهم على قَدْرِ فَهْمِهم؛ إذا يقال إنه ليس في الجنة شيء مما يُشْبِه ما في الدنيا، وإنما الخطاب مع الناس على قَدْرِ أفهامهم‏.‏

‏{‏وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ‏}‏‏:‏ أي ما يجتنى من ثمَرها- إذا أرادوه- دنا إلى أفواههم فتناولوه من غير مَشَقَّةٍ تنالهم‏.‏ وفي الخبر المسند‏:‏ «مَنْ قال سبحان الله والحمد الله ولا إله إلأ الله والله أكبر غَرَسَ الله له شجرةً في الجنة أصلها الذهب وفرعها الدر وطلعها كثدي الأبكار ألين من الزبد وأحلى من العسل، كلما أخذ منها شيئاً عاد كما كان»- وذلك قوله‏:‏ ‏{‏ودنا الجنتين دان‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ ينالها القائم والقاعد والنائم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏56‏)‏‏}‏

أي في الجنان حورٌ قَصَرٍن عيونَهن عن غير أزواجهن‏.‏

وإذا كانت الزوجاتُ قاصراتِ الطَّرْفِ عن غير أزواجهن فأَوْلى بالعبد إذ رجا لقاءَه- سبحانه- أن يقصر طَرْفَه وَيَغُضَّه عن غير مُبَاحٍ‏.‏

بل عن الكُلِّ *** إلى أن يلقاه‏.‏

ويقال‏:‏ من الأولياء مَنْ لا يَنْظُرُ إليهن- وإنْ أُبيح له ذلك لتحرُّره عن الشهوات، ولعلوِّ همته عن المخلوقات- وأنشدوا‏:‏

جِنِنَّا بَليْلَى وهي جُنَّتْ بغيرنا *** وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

ويقال‏:‏ هُنَّ لمن قصرت يدُه عن الحرام والشبهة، وطرفُه عن الرِّيَبِ‏.‏

‏{‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ‏}‏‏:‏ لم يصحبهن غيرُ الوليّ ولم يَحْزُنَ غيرَه، وفي الخبر‏:‏ «اشتاقت الجنة لثلاثة»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏58‏)‏‏}‏

أي‏:‏ في صفاء الياقوت ولون المرجان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

يقال‏:‏ الإحسانُ الأول من الله والثاني من العبد؛ أي‏:‏ هل جزاء مَنْ أحسنَّا إليه بالنصرة إلاَّ أن يُحْسِن لنا بالخدمة‏؟‏ وهل جزاء مَنْ أحسنَّا إليه بالولاء إلا أن يحسن لنا بالوفاء‏؟‏

ويصح أن يكون الإحسانُ الأول من العبد والثاني من الله؛ أي‏:‏ هل جزاء من أحسن من حيث الطاعة إلا أن يُحْسَنَ إليه من حيث القبول والثواب‏؟‏

وهل جزاء من احسن من حيث الخدمة إلا أن يُحْسَنَ إليه من حيث النعمة‏؟‏

ويصح أن يكون الإحسانان من الحقِّ؛ أي‏:‏ هل جزاء مَنْ أحسنَّا إليه في الابتداء إلا أن نُحْسِنَ إليه في الانتهاء‏؟‏ وهل جزاء مَنْ فاتحناه باللُّطف إلا أن نُرْبِيَ له في الفضل والعطف‏؟‏

ويصحُّ أن يكون كلاهما من العبد؛ أي‏:‏ هل جزاء من آمن بنا إلاَّ أَن يَثْبت في المستقبل على إيمانه؛ وهل جزاء مَنْ عَقَد معنا عقد الوفاء إلا أَنْ يقوم بما يقتضيه بالتفصيل‏؟‏

ويقال‏:‏ هل جزاء مَنْ بَعُدَ عن نَفْسِه إلاَّ أَنْ نُقَرِّبَه مِنَّا‏؟‏

وهل جزاء مَنْ فَنِيَ عَنْ نَفْسِه إلاَّ أَنْ يبقى بنا‏؟‏

وهل جزاء مَنْ رَفَعَ لنا خطوة إلاَّ أَن نكافِئِه بكل خطوة ألف حظْوَة، وهل جزاء من حفظ لنا طَرْفَه إلا أن نُكْرِمَه بلقائنا‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ‏(‏62‏)‏‏}‏

هما جنتان غير هاتين اللتين ذُكِرَتا؛ جنتان أُخْرَيان‏.‏ وليس يريد دونهما في الفضل، لكن يريد ‏{‏جَنَّتَانِ‏}‏ سواهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏مُدْهَامَّتَانِ ‏(‏64‏)‏‏}‏

أي‏:‏ خضروان خُضْرةً تضرب إلى السواد‏.‏ فالدهمة السواد والفعل منه ادهامَّ والاسم منه مُدْهامٌّ‏.‏ وللمؤنث مدهامَّة‏.‏ ولتثنية المؤنث مدهامتان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ‏(‏66‏)‏‏}‏

والنَّضْخُ فَوَرانُ العينَ بالماء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ‏(‏68‏)‏‏}‏

الأسماء متشابهة *** والعيون فلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

أي‏:‏ حورٌ خَيِّرات الأخلاق حِسانُ الوجوه‏.‏ واحدها خَيِّرة والجمع خيِّرات وهذا هو الأصل ثم خُفِّف فصارت خيرات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ‏(‏72‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏73‏)‏ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏74‏)‏‏}‏

محبوسات على أزواجهن‏.‏ وهُنَّ لِمَنْ هو مقصورٌ الجوارح عن الزَّلاَّت، مقصورُ القلب عن الغفلات، مقصور السِّرِّ عن مساكنة الأشكال والأعلال والأشباه والأمثال‏.‏

وفي بعض التفاسير‏:‏ أن الخيمة من دُرَّةٍ مجوفة فرسخ في فرسخ لها ألف باب‏.‏

ويقال‏:‏ قصرت أنفسهن وقلوبهن وأبصارهن على أزواجهن‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «أنهن يقلن‏:‏ نحن الناعمات‏.‏ فلا نبؤس، الخالدات فلا نبيد، الراضيات فلا نسخط»‏.‏

وفي خبر عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ «ونحن المتصدِّقاتُ وما تَصَدَّقْتُنَّ» قالت عائشة يغلبهن قولُه‏:‏

‏{‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلُهُمْ وَلاَجَآنٌّ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ رياض الجنة، وقيل‏:‏ المجالس، وقيل‏:‏ الزرابيّ والوسائد- وهي خُضْرٌ ‏{‏وعبقري حسان‏}‏‏:‏ العبقري عند العرب كلُّ ثوبٍ مُوَشَّى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

مضى تفسيره‏.‏

سورة الواقعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏1‏)‏ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ‏(‏2‏)‏ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ‏(‏3‏)‏ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ‏(‏4‏)‏ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ‏(‏5‏)‏ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعِتهَا كَاذِبةٌ‏}‏‏.‏

إذا قامت القيامة لا يردُّها شيءٌ‏.‏

‏{‏كَاذِبَةٌ‏}‏ ها هنا مصدر‏:‏ كالعافية، والعاقبة‏:‏ أي‏:‏ هي حقَّةٌ لا يدرها شيءٌ، وليس في وقوعها كذب‏.‏

ويقال‏:‏ إذا وقعت الواقعة فَمَنْ سَلَكَ منهاج الصحة والاستقامة وَصَلَ إلى السلامة ولقي الكرامة، ومَنْ حادَ عن نهج الاستقامة وَقَعَ في الندامة والغرامة، وعند وقوعها يتبين الصادق من المماذق‏:‏

إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ *** تَبَيَّنَ مَنْ بكى مِمَّن تباكى

‏{‏خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ‏}‏‏.‏

‏{‏خَافِضَةٌ‏}‏ لأهل الشقاوة، ‏{‏رَّافِعَةٌ‏}‏‏:‏ لأهل الوفاق‏.‏

‏{‏خَافِضَةٌ‏}‏‏:‏ للنفوس، ‏{‏رَّافِعَةٌ‏}‏‏:‏ للقلوب‏.‏

‏{‏خَافِضَةٌ‏}‏ لأهل الشهوة، ‏{‏رَّافِعَةٌ‏}‏‏:‏ لأهل الصفوة‏.‏

‏{‏خَافِضَةٌ‏}‏‏:‏ لمن جَحَد، ‏{‏رَّافِعَةٌ‏}‏‏:‏ لمن وَحَدَ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً‏}‏‏.‏

حُرِّكت حركةً شديدة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً‏}‏‏.‏

فُتَّتَت فكانت كالهباء الذي يقع في الكوَّة عند شعاع الشمس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 12‏]‏

‏{‏وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ‏(‏7‏)‏ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏8‏)‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏9‏)‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ‏(‏10‏)‏ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏11‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ المَشْئَمَةِ مَآ أَصْحَابُ المَشْئَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّبِقُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ‏}‏‏؟‏ على جهته التفخيم لشأنهم والتعظيم لِقَدْرهم وهم أصحاب اليمن والبركة والثواب‏.‏

‏{‏مَآ أَصْحَابُ الْمَشْئَمةِ‏}‏‏:‏ على جهة التعظيم والمبالغة في ذَمِّهم، وهم أصحاب الشؤم على أنفسهم ويقال‏:‏ أصحاب الميمنة هم الذين كانوا في جانب اليمين من آدم عليه السلام يومَ الذَّرِّ، وأصحاب المشأمة هم الذين كانوا على شماله‏.‏

ويقال‏:‏ الذين يُعْطُوْن الكتابَ بأَيمْانهم، والذين يُعْطَوْن الكتاب بشمائلهم‏.‏

ويقال‏:‏ هم الذين يُؤْخَذُ بهم ذات اليمين‏.‏‏.‏ إلى الجنة، والذين يُؤْخَذُ بهم ذات الشمال‏.‏‏.‏ إلى النار‏.‏

‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏}‏‏:‏ وهم الصف الثالث‏.‏ وهم السابقون إلى الخصال الحميدة، والأفضال الجميلة‏.‏

ويقال‏:‏ السابقون إلى الهجرة‏.‏ ويقال‏:‏ إلى الإسلام‏.‏ ويقال‏:‏ إلى الصلوات الخمس‏.‏

ويقال‏:‏ السابقون بصدْق القَدَم‏.‏ ويقال‏:‏ السابقون بعُلُوَّ الهِمَم‏.‏ ويقال‏:‏ السابقون إلى كل خير‏.‏ ويقال السابقون المتسارعون إلى التوبة من الذنوب فيتسارعون إلى النَّدمَ إن لم يتسارعوا بصدق القَدَم‏.‏

ويقال‏:‏ الذين سبقت لهم من الله الحسنى فسبقوا إلى ما سبق إليه‏:‏

‏{‏أُوْلَئِِك المُقَرَّبُونَ‏}‏‏.‏

ولم يقل‏:‏ ‏{‏المتقربون‏}‏ بل قال‏:‏ أولئك المُقَرَّبون- وهذاعين الجَمْع، فعَلِمَ الكافة أنهم بتقريب ربهِّم سبقوا- لا بِتقَرُّبهم‏.‏

‏{‏فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ في الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ مقربون إلا من الجنة فمحال أن يكونوا في الجنة ثم يُقَرَّبون من الجنة، وإنما يُقَرَّبُون إِلى غير الجنة‏:‏ يُقَرَّبون من بِساط القربة‏.‏‏.‏

وأنَّى بالبساط ولا بساط‏؟‏‏!‏ مقربون *** ولكن من حيث الكرامة لا من حيث المسافة؛ مُقَرَّبةٌ نفوسُهم من الجنة وقلوبهُم إلى الحقِّ‏.‏

مُقَرَّبةٌ قلوبهُم من بساط المعرفة، وأرواحُهم من ساحات الشهود- فالحقُّ عزيز‏.‏‏.‏ لا قُرْبَ ولا بُعْدَ، ولا فَصْلَ ولا وَصْلَ‏.‏

ويقال‏:‏ مقربون ولكن من حظوظِهم ونصيِبهم‏.‏ وأحوالُهم- وإنْ صَفَتْ- فالحقُّ وراء الوراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 19‏]‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏14‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ‏(‏15‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ‏(‏16‏)‏ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ‏(‏17‏)‏ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏18‏)‏ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الأَخِرِينَ‏}‏‏.‏

الثُّلّة‏:‏ الجماعة‏.‏ ويقال‏:‏ ثلة من الأولين الذين شاهدوا أنبياءَهم وقليل من الآخرين الذين شاهدوا نبيَّنَا صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويقال‏:‏ ثُلّةٌ من الاولين‏:‏ من السلف وقليل من المتأخرين‏:‏ من الأمة‏.‏

‏{‏عَلَى سُرُرٍمَّوْضُونَةٍ‏}‏‏.‏

أي منسوخة نسيج الدرع من الذهب‏.‏ جاء في التفسير‏:‏ طولُ كل سريرٍ ثلاثمائة ذراع، إنْ أراد الجلوسَ عليه تواضع، وإن استوى عليه ارتفع‏.‏

‏{‏مُّتَّكِئينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ‏}‏‏.‏

أي لا يرى بعضُهم قفا بعضٍ‏.‏ وَصَفهم بصفاء المودة وتَهَذُّب الأخلاق‏.‏

‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ‏}‏‏.‏

يطوف عليهم وهم مقيمون لا يبرحون ولدانٌ في سِنِّ واحدة *** لا يهرمون‏.‏

وقيل‏:‏ مُقَرَّطون ‏(‏الخَلدة‏.‏ القُرْط‏)‏‏.‏

‏{‏بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسِ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏بِأَكْوَابٍِ‏}‏ جمع كوب وهي آنية بلا عروة ولا خرطوم، ‏{‏وَأَبَارِيِقَ‏}‏‏:‏ جمع إبريق وهو عكس الكوب ‏(‏أي له خرطوم وعروة‏)‏‏.‏

ولاصداع لهم في شربهم إياها، كما لا تذهب عقولهم بسببها‏.‏

ولهم كذلك فاكهة مما يتخيرون، ولحم طيرٍ مما يشتهون، وحُورٌ عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون، أي‏:‏ المصون، جزاءً بما كانوا يعملون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

اللغو‏:‏ الباطل من القول، والتأثيم‏:‏ الإثم والهذيان‏.‏

ولا يسمعون إلا قيلاً سلاماً، وسلاماً‏:‏ نعت للقيل

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 32‏]‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ‏(‏27‏)‏ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ‏(‏28‏)‏ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ‏(‏29‏)‏ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ‏(‏31‏)‏ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ اليَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ‏}‏‏:‏ لا شوكَ فيه، ‏{‏وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ‏}‏ والطلح شجر الموز، متراكم نضيد بعضه على بعض‏.‏

‏{‏وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ‏}‏ كما بين الإسفار إلى طلوع الشمس‏.‏ وقيل‏:‏ ممدود أي دائم‏.‏

‏{‏وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ‏}‏‏:‏ جَارٍ لا يتعبون فيه‏.‏

‏{‏وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ‏}‏‏:‏ لا مقطوعة عنهم ولا ممنوعة منهم‏.‏

‏{‏وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ لهم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بها النساء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 47‏]‏

‏{‏وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ‏(‏34‏)‏ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ‏(‏35‏)‏ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ‏(‏36‏)‏ عُرُبًا أَتْرَابًا ‏(‏37‏)‏ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏38‏)‏ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏39‏)‏ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏40‏)‏ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ‏(‏41‏)‏ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ‏(‏42‏)‏ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ‏(‏43‏)‏ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ‏(‏44‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ‏(‏46‏)‏ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ لهم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بها النساء‏.‏

‏{‏إِنَّآ أَنشَأْنَهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَهُنَّ أَبْكَارَاً‏}‏ أي الحُور العين‏.‏

‏{‏عُرُباً‏}‏ جمع عَرُوب وهي الغَنِجَةٌ المتحببةُ إلى زَوْجِها‏.‏ ويقال عرباً‏:‏ أي مُتَشَهيَّات إلى أزواجهن‏.‏

‏{‏أَتْرَاباً‏}‏‏:‏ جمع تِرْب، أي‏:‏ هُنَّ على سِنٍّ واحدة‏.‏

‏{‏لأَصْحَابِ الْيَمِينِ‏}‏‏:‏ أي خلقناهن لأصحاب اليمين‏.‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ثلة من أُولَى هذه الأمة، وثُلة من أُخْراها‏.‏

‏{‏وََأصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ‏}‏‏:‏ والسَّموم فيحُ جهنم وحَرُّها‏.‏ والحميم‏:‏ الماءُ الحار‏.‏

‏{‏وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ‏}‏، وهو الدُّخان الأُسود‏.‏

‏{‏لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ‏}‏‏:‏ لا بارد‏:‏ أي لا راحةَ فيه‏.‏ ولا كريمٍ‏:‏ ولا حَسَنٍ لهم؛ ‏(‏حيث لا نفع فيه‏)‏‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ‏}‏ أيك كانوا في الدنيا مُمَتَّعين‏.‏

‏{‏وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ‏}‏ أي الذَّنْبِ العظيم‏.‏

‏{‏وَكَانُواْ يَقُولُونَ إَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُثُونَ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ أنهم يُكَذِّبون بالبعث‏.‏

- ثم يقال لهم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ‏}‏ اليومَ ‏{‏لأَكِلُونَ مِن شَجِرٍ مِّن زَقُّومٍ‏}‏ وجاء في التفسير‏:‏ أن الزقوم شجرة في أسفل جهنم إذا طُرِحَ الكافرُ في جهنم لا يصل إليها إلا بعد أربعين خريفاً‏.‏

‏{‏فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمَ‏}‏ شرابٌ لا تهنأون به ‏{‏فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ‏}‏ وهي الإبل العِطاش‏.‏ ويقال‏:‏ الهيم أي الرَّمْلُ ينضب فيه كلٌّ ما يُصَبُّ عليه‏.‏

‏{‏هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الِّدِينِ‏}‏‏:‏ يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ‏(‏51‏)‏ لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ‏(‏52‏)‏ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏53‏)‏ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ‏(‏54‏)‏ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ‏(‏55‏)‏ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

ثم يقال لهم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ‏}‏ اليومَ ‏{‏لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ‏}‏ وجاء في التفسير‏:‏ أن الزقوم شجرة في أسفل جهنم إذا طُرِحَ الكافرُ جهنم لا يصل إليها إلا بعد أربعين خريفاً‏.‏

‏{‏فَمَالئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ‏}‏ شرابٌ لا تهنأون به ‏{‏فَشَارِبوُنَ شُرْبَ الْهِيمِ‏}‏‏:‏ وهي الإبل العِطاش‏.‏ ويقال‏:‏ الهيم أي الرَّمْلُ ينضب فيه كلٌّ ما يُصَبُّ عليه‏.‏

‏{‏هَذا نُزُولُهمْ يَوْمَ الدِّينِ‏}‏‏:‏ يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ‏(‏57‏)‏ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ‏(‏58‏)‏ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ‏}‏‏.‏

نحن خلقناكم‏:‏ يا أهلَ مكة- فهلاَّ آمَنْتُم لتتخلصوا‏؟‏ توبَّخون وتُعَاتَبون‏.‏‏.‏ واليومَ تَعْتَذِرون‏!‏ ولكن لا ينفعكم ذلك ولا يُسْمَعُ منكم شيء‏.‏

وإن أشدّ العقوبات عليهم يومئذٍ أنهم لا يتفرَّغون من آلامِ نفوسِهم وأوجاعِ أعضائهم إلى التَحسُّر على ما فاتهم في حقِّ الله‏.‏

ويقال‏:‏ أشدُّ البلاء- اليوم- على قلوب هذه الطائفة خوفُهم من أَنْ يَشْغَلَهم- غداً- بمقاساة آلامهم عن التحسُّر على ما تكدَّرَ عليهم من المشارب في هذا الطريق‏.‏ وهذه محنة لا شيءَ أعظمُ على الأصحاب منها‏.‏ وإنَّ أصحابَ القلوب- اليوم- يبتهلون إليه ويقولون‏:‏ إنْ حَرَمْتَنا مشاهدَ الأُنْس فلا تَشْغَلْنا بلذَّاتٍ تشغلنا عن التحسُّر على ما فاتنا، ولا بآلامٍ تشغلنا عن التأسُّف على ما عَدِمْنا منك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ءَأَنتُمْ تَخْلَقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ‏}‏‏.‏

يقال‏:‏ مَنىَ الرجلُ وأَمْنَى‏.‏ والمعنى‏:‏ هل إذا باشَرْتُم وأنزلتم وانعقد الولد *** أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون‏؟‏ والخَلْقُ ها هنا‏:‏ التصوير؛ أي‏:‏ أأنتم تجمعون صُوَرَ المولود وتُرَكِّبون أعضاءَه *** أم نحن‏؟‏

وهم كانوا يُقِرُّون بالنشأة الأولى فاحتجَّ بهذا على جواز النشأة الأخرى عند البعث الذي كانوا ينكرونه‏.‏ وهذه الآية أصلٌ في إثبات الصانع؛ فإن أصلَ خِلْقَةِ الإنسان من قطرتين‏:‏ قطرة من صُلْبِ الأب وهو المني وقطرة من تربية الأم، وتجتمع القطرتان في الرَّحِم فيصير الولد‏.‏ وينقسم الماءان المختلطان إلى هذه الأجزاء التي هي أجزاء الإنسان من العَظْم والعَصَبِ والعرِقِ والجِلْدِ والشَّعْر *** ثم يركبها على هذه الصور في الأعضاء الظاهرة وفي الأجزاء الباطنة حيث يُشَكَّلُ كل عضوٍ بشكلٍ خاص، والعِظام بكيفية خاصة *** إلى غير ذلك‏.‏

وليس يخلو‏:‏ إِمَّا أَنْ يكونَ الأبوَان يصنعانه- وذلك التقديرُ محالٌ لتقاصر عِلْمِها وقُدْرتهما عن ذلك وتمَنِّيهما الولَدَ ثم لا يكون، وكراهتهما الولدَ ثم يكون‏!‏

والنُّطفة أو القَطْرةُ مُحَالٌ تقديرُ فِعْلها في نَفْسِها على هذه الصورة لكونها من الأموات بَعْدُ، ولا عِلْمَ لها ولا قدرة‏.‏

أو مِنْ غيرِ صانعٍ *** وبالضرورة يُعْلَمُ أنه لا يجوز‏.‏

فلم يَبْقَ إِلاَّ أن الصانعَ القديمَ المَلِكَ العليمَ هو الخالق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 70‏]‏

‏{‏نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏60‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ‏(‏63‏)‏ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ‏(‏64‏)‏ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ‏(‏65‏)‏ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ‏(‏66‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏67‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ‏(‏68‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ‏(‏69‏)‏ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحُنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمُ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

يكون الموتُ في الوقت الذي يريده؛ منكم مَنْ يموت طفلاً ومنكم من يموت شابَّاً، ومنكم من يموت كهلاً، وبِعللٍ مختلفة وبأسبابٍ متفاوتةٍ وفي أوقاتٍ مختلفة‏.‏

‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏ في تقديرنا فيفوتنا شيءٌ ولَسْنا بعاجزين عن أن نَخْلُقِ أمثالَكم، ولا بعاجزين عن تبديلَ صُوَركم التي تعلمون؛ إِن أردنا مَسْخَكُم وتبديلَ صُوَركم فلا يمنعنا عن ذلك أحدٌ‏.‏

ويقال‏:‏ وننشئكم فيما لا تعلمون من حكم السعادة والشقاوة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النًَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أنتم أقررتم بالنشأة الأولى‏.‏‏.‏ فهلاَّ تذكرَّون لتعلموا جَوَازَ الإعادة؛ إذ هي في معناها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ إذا ألقيتم الحَبَّ في الأرض‏.‏‏.‏ أأنتم تُنْبِتُونه أم نحن المُنبِتون‏؟‏ وكذلك وُجوهُ الحكمةِ في إنبات الزَّرْع، وأنقسام الحَبَّةِ الواحدةِ على الشجرة النابتةِِ منها في قِشْرِها ولحائها وجِذْعِها وأغصاناها وأوراقها وثمارها- كل هذا‏:‏

‏{‏لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ‏}‏‏.‏

لو نشاء لجعناه حطاماً يابساً بعد خُضْرَته، فصِرْهُم تتعجبون وتندمون على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه، ثم تقولون‏:‏

‏{‏إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لَمُلْزَمون غرامةَ ما أنفقنا في الزَّرع، وقد صار ذلك غُرْماُ علينا- فالمغرم مَنْ ذَهَبَ إنفاقُه بغير عِوَضٍ‏.‏

‏{‏بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ بل نحن محرومون بعد أن ضاع مِنَّا الرزق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

أأنتم أنزلتموه من السحاب *** أم نحن نُنْزِلُهُ متى نساء أَنَّى نشاء كما نشاء على من نشاء وعلى ما نشاء‏؟‏ ونحن الذين نجعله مختلفاً في الوقت وفي المقدار وفي الكيفية، في القِلَّة وفي الكثرة‏.‏

ولو نشاء لجعناه ملحاً‏.‏‏.‏ أفلا تشكرون عظيمَ نعمةِ اللَّهِ- سبحانه- عليكم في تمكينكم من الانتفاع بهذه الأشياء التي خَلَقها لكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 80‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ‏(‏71‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ‏(‏72‏)‏ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ‏(‏73‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ‏(‏76‏)‏ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ‏(‏77‏)‏ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ‏(‏78‏)‏ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ‏(‏79‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ‏}‏‏.‏

وَرَى الزَّنْدَ يُرَى فهو وارٍ‏.‏‏.‏ وأَوْراه يُورِيه أي يَقْدَحُه‏.‏

يعني‏:‏ إذا قدحتم الزند‏.‏‏.‏ أرأيتم كيف تظهر النار- فهل أنتم تخلقون ذلك‏؟‏

أأنتم أنشأتم شجرتها- يعني المَرْخ والعَفَار- أم نحن المنشئون‏؟‏

‏{‏نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً‏}‏‏:‏ أي يمكن الاستدلالُ بها‏.‏

‏{‏وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ‏}‏‏:‏ يقال‏:‏ أقوى الرجلُ إذا نزل بالقواء أي‏:‏ الأرض الخالية‏.‏

فالمعنى‏:‏ أن هذه النار ‏{‏تَذْكِرةً‏}‏ يتذكَّر بها الإنسان ما توعده به في الآخرة من نار جهنم، و‏{‏وَمَتَاعاً‏}‏‏:‏ يستمتع بها المسافر في سفره في الانتفاع المختلفة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ اسبحْ بفكرك في بحار عقلك، وغُصْ بقوة التوحيد فيها تَظْفَرْ بجواهر العلم، وإيَّاك أَنْ تُقَصِّرَ في الغوص لسببٍ أولآخَر، وإياك أن تتداخَلَكَ الشُّبَهُ فيتلفَ رأسَ مالِك ويخرجَ من يدك وهو دينُك واعتقادك‏.‏‏.‏ وإلاَّ غرقتَ في بحار الشُّبَه، وضَلَلْتَ‏.‏

وهذه الآيات التي عَدَّها الله- سبحانه- تُمَهِّدُ لسلوكِ طريقِ الاستدلالِ، فكما في الخبر «فِكْرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ سَنَةٍ»- وقد نبَّه الله سبحانه بهذا إلى ضرورة التفكير‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ هي مواقع نجوم السماء‏.‏ ويقال‏:‏ موقع نجوم القرآن على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ‏}‏‏:‏ والكَرَمُ نَفْيُ الدناءة- أي‏:‏ أنه غير مخلوق ويقال‏:‏ هو ‏{‏لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ‏}‏‏:‏ لأنه يدل على مكارم الأخلاق‏.‏

ويقال هو قرآن كريمٌ أنه من عند ربٍّ كريم على رسولٍ كريم، على لسانَ مَلَكٍ كريم‏.‏ ‏{‏فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ‏}‏‏:‏ يقال‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ ويقال‏:‏ في المصاحفَ‏.‏ وهو محفوظ عن التبديل‏.‏ ‏{‏لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ‏}‏ عن الأدناس والعيوب والمعاصي‏.‏

ويقال‏:‏ هو خَبَرٌ فيه معنى الأمر‏:‏ أي لا ينبغي أَنْ يَمَسَّ المصحفَ إلا مَنْ كان مُتَطهِّراً من الشِّرْكِ وعن الأحداث‏.‏

ويقال‏:‏ لا يجد طَعْمَه وبَرَكَته إلاَّ مَنْ آمَنَ به‏.‏

ويقال‏:‏ لا يقربه إلاَّ الموَحِّدون، فأمَّا الكفَّار فيكرهون سماعَه فلا يقربونه‏.‏

وقرئ المُطَهِّرون‏:‏ أي الذين يُطَهِّرون نفوسَهم عن الذنوب والخُلُقِ الدَّنيّ‏.‏

ويقال‏:‏ لا يَمَسُّ خبره إلاَّ من طُهِّر يومَ القسمة عن الشقاوة‏.‏

ويقال‏:‏ لا يَمَسُّ خبره إلاَّ مَنْ طَهَّر سِرَّه عن الكون‏.‏

ويقال‏:‏ المطهِّرون سرائرَهم عن غيره‏.‏

ويقال‏:‏ إلا المُحْتَرِمون له القائمون بحقِّه‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ طُهِّرَ بماء السعادة ثم بماء الرحمة‏.‏

‏{‏تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ مُنَزَّل من قِبَلهِ- سبحانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 85‏]‏

‏{‏أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ‏(‏81‏)‏ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ‏(‏83‏)‏ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ‏(‏84‏)‏ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏‏.‏

أبهذا القرآن أنتم تُنافِقون، وبه تُكَذِّبون‏.‏

‏{‏وَتَجْعَلُون رِزْقَكُمْ‏}‏‏:‏ كانوا إذا أُمْطِروا يقولون أُمْطِرْنا بِنَوْءٍ كذا‏.‏

يقول‏:‏ أتجعلون بَدَلَ إنعامِ اللَّهِ عليكم بالمطر الكفرانَ به، وتتوهمون أن المطرَ- الذي هو نعمةٌ من الله- من الأنواء والكواكب‏؟‏‏!‏‏.‏

ويقال‏:‏ أتجعلون حظَّكم ونصيبَكم من القرآنِ التكذيبَ‏؟‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏

يخاطِبُ أولياء الميت فيقول‏:‏ هَّلا إذا بَلَغتْ روحُه الحلقوم، وأنتم تنظرون إلى هذا المريض، رجعتم إلى الله تعالى وتحققتم به‏؟‏ فنحن أقرب إليه منكم بالعلم والرؤية والقدرة *** ولكن لا تبصرون‏!‏

ويقال‏:‏ أقرب ما يكون العبدُ من الحقِّ عندما يتم استيلاءُ ذِكْرِه وشهودِه عليه، فينتفِي إِحساسُ العبدِ بغيره، وعلى حسب انتفاءِ العلمِ والإحساسِ بالأغيار- حتى عن نفسه- يكون تحقُّق العبد في سِرِّه حتى لا يرى غير الحَقّ‏.‏

فالقرب والبعد معناهما‏:‏ أنَّ العبد في أوان صحوه وأنه لم يُؤْخَذْ- بَعْدُ- عن نفسه؛ فإذا أُخِذَ عنه فلا يكون إلا الحق *** لأنه حينئذٍِ لا قُرْب ولا بُعْدِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 91‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ‏(‏86‏)‏ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏87‏)‏ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏88‏)‏ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ‏(‏89‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏90‏)‏ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏91‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِنَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

ليس لكم من أمر الموت شيءٍ‏.‏

‏{‏تَرْجعُونَهَآ‏}‏ أي‏:‏ تردُّون الروح إلى الجسد‏.‏

‏{‏إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏:‏ في أنه لا بعث‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ‏}‏‏.‏

المقَرَّبون هم الذين قرَّهم اللَّهُ بفضله، فلهم ‏{‏فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ الرَّوْح الاستراحة، والريحانُ الرزقُ‏.‏

وقيل‏:‏ الرَّوح في القبر، والريحانُ‏:‏ في الجنة‏.‏

ويقال‏:‏ لا يخرج مؤمِنٌ في الدنيا حتى يُؤْتَى بريحانٍ من رياحين الجنة فيشمه قبل خروج روحه، فالرُّوْح راحةٌ عند الموت، والريحان في الآخرة‏.‏

وقيل‏:‏ كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم «الرُّوح» بضم الراء أي لهم فيها حياة دائمة‏.‏

ويقال‏:‏ الرَّوْحُ لقلوبهم، والرياح لنفوسهم، والجنَّةُ لأبدانهم‏.‏

ويقال‏:‏ رَوْحٌ في الدنيا، وريحانٌ في الجنة، وجنَّةُ نعيمٍ في الآخرة‏.‏

ويقال‏:‏ رَوْحٌ وريحان مُعَجَّلان، وجنة نعيم مؤجلة‏.‏

ويقال‏:‏ رَوْحٌ للعابدين، وريحان للعافين، وجَنَّةُ نعيم لعوام المؤمنين‏.‏

ويقال‏:‏ رَوْحٌ نسيم القرب، وريحان كما البسط، وجنة نعيمٍ في محل المناجاة‏.‏

ويقال‏:‏ رَوْح رؤية الله، وريحانُ سماع كلامه بلا واسطة، وجنة نعيم أن يدوم هذا ولا ينقطع‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وََأمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمَِينِ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينَ‏}‏‏.‏

أن نخبرك بسلامة أحوالِهم‏.‏

ويقال‏:‏ سترى فيهم ما تحب من السلامة‏.‏

ويقال‏:‏ أمانٌ لك في بابهم؛ فلهم السلامة‏.‏ ولا تُشْغِلْ قلبَكَ بهم‏.‏

ويقال‏:‏ فسلامٌ لك- أيها الإنسان- إنك من أصحاب اليمين، او أيها الإنسانُ الذي من أصحاب اليمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 96‏]‏

‏{‏وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ‏(‏92‏)‏ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏93‏)‏ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ‏(‏94‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏95‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيهُ جَحِيمٍ‏}‏‏.‏

إن كان من المكذبين لله، الضالّين عن دين الله فله إقامةٌ في الجحيم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

هذا هو الحق اليقين الذي لا محالةَ حاصلٌ‏.‏

‏{‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

أي قَدِّسْ اللَّهَ عَمَّا لا يجوز في وصفه‏.‏

ويقال‏:‏ صلِّ لله‏.‏ ويقال‏:‏ اشكرْ اللَّهَ على عصمة أُمَّتِكَ من الضّلال، وعلى توفيقهم في اتِّباعِ سُنّتِكَ‏.‏

سورة الحديد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ‏}‏‏.‏

التسبيحُ التقديسُ والتنزيه، ويكون بمعنى سباحة الأسرار في بحار الإجلال، فيظفرون بجواهر التوحيد ويَنْظِمونها في عقود الإيمان، ويُرَصِّعونها في أطواق الوصلة‏:‏

وقله ‏{‏مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ المردُ به «من» في السموات والأرض، يسجدون لله طوعاً وكرهاً؛ طوعاً تسبيحَ طاعةٍ وعبادة، وكرهاً تسبيح علامة ودلالة‏.‏

وتُحْملُ «ما» عل ظاهرها فيكون لمعنى‏:‏ ما من مخلوقٍ من عينٍ أو أَثَرِ إلا ويَدُلُّ على الصانع، وعلى إثبات جلاله، وعلى استحقاقه لنعوت كبريائه‏.‏

ويقال‏:‏ يُسبح لله ما في السموات والأرض، كلٌّ واقفٌ على الباب بشاهدِ الطّلَبِ *** ولكنه- سبحانه عزيزٌ‏.‏

ويقال‏:‏ ما تَقَلّب أحدُ من جاحدٍ أو ساجدٍ إلا في قبضة العزيز الواحد، فما يُصَرِّفهم إلا مَنْ خَلَقَهم؛ فمِنْ مُطيعٍ أَلْبَسَه نطاق وفاقه- وذلك فَضْلُه، ومِنْ عاصٍ رَبَطَه بمثقلة الخذلان- وذلك عَدْلُه‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏:‏ العزيز‏:‏ المُعِزُّ لِمَنْ طَلَبَ الوصول، بل العزيز‏:‏ المتقدِّسُ عن كل وصول‏.‏‏.‏ فما وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إلا حظِّه ونصيبه وصفته على ما يليق به‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

المُلْك مبالغةٌ من المِلْك، وهو القدرةعلى الإبداع، ولا مالكَ إلا الله‏.‏ وإذا قيل لغيره‏:‏ مالك فعلى سبيل المجاز؛ فالأحكام المتعلقة في الشريعة على مِلْكَ الناس صحيحةٌ في الشرع، ولكنَّ لفظَ المِلْك فيها توسُّعٌ كما ان لفظَ التيمم في استعمال التراب- عند عدم الماء- في السفر مجازٌ، فالمسائل الشرعية في التيمم صحيحة، ولكن لفظ التيمم في ذلك مجاز‏.‏

‏{‏يُحْىِ وَيُمِيتُ‏}‏‏:‏ يحيي النفوس ويميتها‏.‏ يُحْيي القلوبَ بإِقباله عليها، ويميتها بإعراضه عنها‏.‏ ويقال‏:‏ يحييها بنظره وتفضُّله، ويميتها بقهره وتعزُّزه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الأول‏}‏‏:‏ لاستحقاقه صفة القِدَم، و‏{‏الآخرِ‏}‏ لاستحالة نعت العدَم‏.‏

و ‏{‏الظاهر‏}‏‏:‏ بالعلو والرفعة، و‏{‏الباطن‏}‏‏:‏ بالعلم والحكمة‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الأول‏}‏ فلا افتتاحَ لوجوده و‏{‏الآخر‏}‏ فلا انقطاعَ لثبوته‏.‏

‏{‏الظاهر‏}‏ فلا خفاءَ في جلال عِزِّه، ‏{‏الباطن‏}‏ فلا سبيل إلى إدراك حقِّه‏.‏

ويقال ‏{‏الأول‏}‏ بلا ابتداء، و‏{‏الآخِر‏}‏ بلا انتهاء، و‏{‏الظاهر‏}‏ بلا خفاء، و‏{‏الباطن‏}‏ بنعت العلاء وعِزِّ الكبرياء‏.‏

ويقال ‏{‏الأول‏}‏ بالعناية، ‏{‏والآخر‏}‏ بالهداية، و‏{‏الظاهر‏}‏ بالرعاية، و‏{‏الباطن‏}‏ بالولاية‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏الأول‏}‏ بالخَلْق، و‏{‏الآخِر‏}‏ بالرزق، و‏{‏الظاهر‏}‏ بالإحياء، و‏{‏الباطن‏}‏ بالإماتة والإفناء‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏الأول‏}‏ لا بزمان، و‏{‏الآخر‏}‏ لا بأوان، و‏{‏الظاهر‏}‏ بلا اقتراب، و‏{‏الباطن‏}‏ بلا احتجاب‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الأول‏}‏ بالوصلة، و‏{‏الآخر‏}‏ بالخلّة، و‏{‏الظاهر‏}‏ بالأدلة، و‏{‏الباطن‏}‏ بالبعد عن مشابهة الجملة‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الأول‏}‏ بالتعريف، و‏{‏والآخر‏}‏ بالتكليف، و‏{‏والظاهر‏}‏ بالتشريف و‏{‏والباطن‏}‏ بالتخفيف‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الأول‏}‏ بالإعلام، ‏{‏والآخر‏}‏ بالإلزام، ‏{‏والظاهر‏}‏ بالإنعام ‏{‏والباطن‏}‏ بالإكرام‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الأول‏}‏ بأن اصطفاك ‏{‏والآخر‏}‏ بأن هداك، ‏{‏والظاهر‏}‏ بأن رعاك، ‏{‏والباطن‏}‏ بأن كفاك‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ كان الغالبُ عليه اسمه ‏{‏الأول‏}‏ كانت فكرته في حديثِ سابقته‏:‏ بماذا سمَّاه مولاه‏؟‏ وما الذي أجرى له في سابق حُكْمه‏؟‏ أبسعادته أم بشقائه‏؟‏

ومَنْ كان الغالبُ على قلبه اسمه ‏{‏الآخِر‏}‏ كانت فكرته فيه‏:‏ بماذا يختم له حالَه‏؟‏ وإلام يصير مآلُه‏؟‏ أَعَلى التوحيد يَخْرُجُ من دنياه أو- والعياذُ بالله- في النارِ غداً- مثواه‏؟‏

ومَن كان الغالبُ عل قلبه اسمُه ‏{‏الظاهر‏}‏ فاشتغاله بشكر ما يجرى في الحال من توفيق الإحسان وتحقيق الإيمان وجميل الكفاية وحُسْنِ الرعاية‏.‏

ومَنْ كان الغلبُ على قلبه اسمه ‏{‏الباطن‏}‏ كانت فكرتُه في استبهام أمره عليه فيتعثَّر ولا يدري *** أَفَضْلٌ ما يعامله به ربُّ أم مَكْرٌ ما يستدرجه به ربُّه‏؟‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الأول‏}‏ علم ما يفعله عبادُه ولم يمنعه عِلْمُه من تعريفهم، ‏{‏والآخِر‏}‏ رأى ما عَمِلوا ولم يمنعه ذلك من غفرانهم ‏{‏والظاهر‏}‏ ليس يَخْفَى عليه شيءٌ من شأنهم، وليس يَدَعُ شيئاً من إحسانهم ‏{‏والباطن‏}‏ يعلم ما ليس لهم به عِلْمٌ من خسرانهم ونقصانهم فيدفع عنهم فنونَ مَحَنهم وأحزانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ‏}‏‏.‏

مضى الكلام في ذلك‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏‏.‏

أي ما يدخل فيها من القَطْرِ، والكنوزِ، والبذورِ، والأموات الذين يُدْفَنون فيها، ‏{‏وما يخرج منها‏}‏ من النبات وانفجار العيون وما يُسْتَخْرَجُ من المعادن‏.‏

‏{‏وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ‏}‏‏.‏

من المطر والأرزاق‏.‏ أو ما يأتي به الملائكةُ من القضاء والوحي‏.‏

‏{‏وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏‏.‏

أي وما يصعد إليها من الملائكة، وطاعاتِ العِباد، ودعوات الخَلْقِ، وصحف المُكَلَّفين، وأرواح المؤمنين‏.‏

‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وهو معكم‏}‏ بالعلم والقدرة‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ‏}‏ إِذا دُفِنَ العَبْدُ فاللَّه سبحانه يعلم ما الذي كان في قلبه من إخلاصٍ في توحيدهِ، ووجوهِ أحزانه خسرانه، وشَكِّه وجحوده، واوصافه المحمودة والمذمومة *** ونحو ذلك مما يخفى عليكم‏.‏

‏{‏وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ‏}‏ على قلوب أوليائه من الألطاف والكشوفات وفنون الأحوال العزيزة‏.‏

‏{‏وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏ من أنفاس الاولياء إذا تصاعدت، وحسراتهم إذا عَلَت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏6‏)‏ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فَى الَّيْلِ‏}‏‏.‏

مضى معناه‏.‏

‏{‏ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏‏.‏

صَدَّقوا باللَّهِ ورسولِهِ، وتَصَدَّقوا ‏{‏مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ‏}‏ بتمليككم ذلك وتصييره إليكم‏.‏ والذين آمنوا منكم وتصدَّقوا على الوجه الذي أُمروا به لهم ثوابٌ عظيمٌ؛ فإنَّ ما تحويه الأيدي مُعَرَّضٌ للزوال فالسَّعيدُ مَنْ قَدَّمَ في دنياه مَالَه في الآخرة عمارة حاله، والشقيُّ من سار فيما له في الآخرة وَبالُ مآله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

أي شيء لكم في تَرْكِكُم الإيمان بالله وبرسوله، وما أتاكم به من الحشر والنشر، وقد أزاح العِلَّةَ بأنْ ألاَحَ لكم الحُجَّة، وقد أخَذَ ميثاقَكم وقتَ الذَّرِّ، وأوجب عليكم ذلك بحُكم الشَّرْع‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

ليخرِجَكم من ظلماتِ الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشكِّ إلى نور اليقين‏.‏

وكذلك يُريهم في أنفسهم من الآياتِ بكشوفاتِ السِّرِّ وما يحصل به التعريف مما يجدون فيه النفع والخيرَ؛ فيخرجهم من ظلمات التدبير إلى سعة فضاء التفويض، وملاحظة فنون جريان المقادير‏.‏

وكذلك إذا أرادت النَّفْس الجنوحَ إلى الرُّخصِ والأخذِ بالتخفيف وما تكون عليه المطالبةُ بالأشَقِّ- فإن بادَرَ إلى ما تدعوه الحقيقةُ إليه وَجَدَ في قلبه من النور ما يَعْلَمُ به ظلمةَ هواجس النَّفْسِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيَراثُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ‏}‏‏.‏

ما في أيديكم ميراثُه الله، وعن قريبٍ سيُنْقَلُ إلى غيركم ولا تبقون بتطاول أحمالكم‏.‏ وهو بهذا يحثهم علىلصدقةِ والبدارِ إلى الطاعة وتَرْكِ الإخلاد إلى الأمل‏.‏‏.‏ ثم قال‏:‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏‏.‏

لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح مكة والحديبية والذين أنفقوا من بعد ذلك‏.‏ بل أولئك اعظم ثواباً وأعلى درجةً من هؤلاء؛ لانَّ حاجةَ الناسِ كانت أكثر إلى ذلك وكان ذلك أشقَّ على أصحابه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ إلاَّ انَّ فضيلة السَّبْقِ لهم، ولهذا قالوا‏:‏

السابقَ السابقَ قولاً وفعلاً *** حذِّرْ النَّفْسَ حَسْرَةَ المسبوق

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏11‏)‏ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏‏.‏

المراد بالقرض الصدقة، وإنما ذكرها سبحانه كذلك تطييباً لقلوبهم، فكأن المتصدِّق وهو يقرض شيئاً كالذي يقطع شيئاً من ماله ليدفَعه إلى المُسْتَقْرِض‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏يُقْرِضُ‏}‏ أي يفعل فعلاً حسناً، وأراد بالقرض الحسن ها هنا ما يكون من وجهٍ حلالٍ ثم عن طٍيبِ قلبٍ، وصاحبُه مخلِصٌ فيه، بلا رياء يشوبه، وبلا مَنِّ على الفقير، ولا يُكَدِّره تطويلُ الوعد ولا ينتظر عليه كثرة الأعواض‏.‏

ويقال‏:‏ أن تقرضه وتقطع عن قلبك حُبَّ الدارين، ففي الخبر‏:‏ «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنًى» ومَنْ لم يتحرَّرْ من شيء فخروجُه عنه تكلُّفٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيِهمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏‏.‏

وهو نورٌ يُعْطَى للمؤمنين والمؤمنات بقَدْر أعمالهم الصاحة، ويكون لذلك النور مطارحُ شعاع يمشون فيها والنورُ يسعى بين أيديهم، ويحيط جيمع جهاتهم‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَبِأَيْمَانِهِم‏}‏ كتبهم‏.‏

‏{‏بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ‏}‏ أي بشارتكم اليومَ- من الله جنات‏.‏ وكما أن لهم في العرصة هذا النور فاليومَ لهم في قلوبهم وبواطنهم نورٌ يمشون فيه، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المؤمن ينظر بنور الله» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِهِّ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وربما ينبسط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ منهم‏.‏ وربما يقع من ذلك على القلوب قَهْراً- ولأوليائه- لا محالةَ- هذه الخصوصية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ‏(‏13‏)‏ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏‏.‏

انتظرونا فنلحق بكم لنقتبسَ من نوركم‏.‏ وذلك لأن المؤمنين والمنافقين يُعْطَوْن كُتُبهم وهم في في النور، فإذا مَرُّوا *** انطفأ النور أمام لمنافقين وسَبقَ المؤمنون، فيقول المنافقون للمؤمنين‏:‏ انتظرونا حتى نقتبسَ من نوركم‏.‏ فيقول المؤمنون‏:‏

‏{‏قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَاَلْتَمِسُواْ نُوراً‏}‏‏.‏

أي إلى الدنيا وأَخلِصوا‏!‏- تعريفاً لهم أنهم كانوا منافقِين في الدنيا‏.‏

ويقال‏:‏ ارجعوا إلى حُكْم الأزلِ فاطلبوا هذا من القِسْمة‏!‏- وهذا على جهة ضربِ المَثل والاستبعاد‏.‏

‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابُ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذابُ‏}‏‏.‏

‏{‏بِسُورٍ‏}‏‏:‏ وهو جَبَلُ أصحاب الاعراف، يستر بينهم وبين المنافقين، فالوجهُ الذي بلي المؤمن فيه الرحمة وفي الوجه الآخر العذابُ‏.‏

‏{‏يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

ألم نكن معكم في الدنيا في أحكام الإيمان في المناحكة والمعاشرة‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم‏.‏

‏{‏وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغُرُورُ‏}‏‏.‏

تربصتم عن الإخلاص، وشككتم، وغرَّكم الشيطان، وركنتم إلى الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ‏}‏‏.‏

النارُ ماواكم ومصيرُكم ومُتَقَلبُكُم‏.‏

و ‏{‏هي مولاكم‏}‏ أي هي أوْلَى بكم، وبئس المصير‏!‏

ويقال‏:‏ مخالفة الضمائر والسرائر لا تنكتم بموافقة الظاهر، والأسرار لا تنكتم عند الاختبار‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِيِنَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذَِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهُم الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

ألم يَحِنْ للذين آمنوا أن تتواضعَ قلوبُهم وتلين لذِكْر اللَّهِ وللقرآنِ وما فيه من العِبَر‏؟‏ وألا يكونوا كالذين أوتوا الكتابَ من قبل‏؟‏ وأراد بهم اليهودَ، وكثيرٌ من اليهود فاسقون كافرون‏.‏

وأراد بطول الأمَدِ الفترةَ التي كانت بين موسى ونبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وفي الخبر‏:‏ «أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصابتهم ملالةٌ فقالوا‏:‏ لو حَدّثْتنا»‏.‏

فأنزل اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏ فبعد مُدَّةٍ قالوا‏:‏

لو قَصَصْتَ علينا‏!‏

فأنزل اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏نَّحْن ُنَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 13‏]‏ فبعد مدةٍ قالوا‏:‏ لو ذَكَّرتَنا ووَعَظْتَنا‏!‏

فأنزل الله تعالى هذه السورة‏.‏

وفي هذه الآية ما يشبه الاستبطاء‏.‏

وإن قسوة القلب تحصل من اتباع الشهوة، والشهوة والصفة لا تجتمعان؛ فإذا حَصَلت الشهوةُ رَحَلت الصفوة‏.‏ وموجِبُ القسوة هو انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ‏.‏ ويقال‏:‏ موجب القسوة أوَّلُه خَطْرة- فإلمَّ تُتَداركْ صارت فكرة، وإلمّ تُتدَاركْ صارت عزيمة، فإن لم تُتَدَاركْ جَرَت المخالفة، فإن لم تُتداركْ بالتلافي صارت قسوةً وبعدئذ تصيرطَبعاً ورَيْناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأَيَاتَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

يُحْيي الأرضَ بعد موتها بإنزال المطرِ عليها وإخراج النّبتِ منها‏.‏ ويُحيي القلوبَ الميتةَ- بعد إعراضِ الحقِّ عنها- بحسن إقباله عليها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ المُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏‏.‏

أي المتصدقين والمتصدقات‏.‏

‏{‏وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً‏}‏‏:‏ يعني في النوافل‏.‏

‏{‏يُضَاعَفُ لَهُمْ‏}‏ في الحسنات، الحسنةُ بعَشْر أمثالها‏.‏‏.‏ إلى ما شاء اللهُ‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏‏:‏ ثوابٌ كبيرٌ حَسَنٌ‏.‏ والثوابُ الكريمُ أَنَّه لا يضن بأقصى الأجْرِ على الطاعةِ- وإنْ قَلَّتْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏19‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسِلهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ‏}‏‏.‏

الصدِّيقون‏:‏ مبالغة في الصدق، والشهداء‏:‏ الذين استشهدوا في سبيل الله، فالمؤمنون بمنزلة الصديقين والشهداء- لهم أجرهم في الجنة ونورهم في القيامة‏.‏

‏{‏وَالَّذِيِنَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِئآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏‏.‏

والصدِّيق مَنْ استوى ظاهرُه وباطنُه‏.‏

ويقال‏:‏ هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَقِّ، ولا ينْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح للتأويلات‏.‏

والشهداءُ‏:‏ الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القربة، ‏{‏وَنُورُهُمْ‏}‏‏:‏ ما كحل الحقُّ به بصائرهم من أنوار التوحيد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَياَةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ‏}‏‏.‏

الحياةُ الدنيا مُعَرَّضَةٌ للزوال، غيرُ لا بثةٍ ولا ماكثة، وهي في الحال شاغلةٌ عن الله، مُطْمِعةٌ وغير مُشْبِعة، وتجري على غير سَنن الاستقامة كجريان لَعِب الصبيان، فهي تُلْهي عن الصوابِ واستبصار لحقِّ، وهي تفاخرٌ وتكاثرٌ في الأوال والأولاد‏.‏

‏{‏كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفًَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونَ حُطَاماً‏}‏‏.‏

الكفار‏:‏ الزُّرَّاع‏.‏

هو في غاية الحُسْنِ ثم يهيج فتراه يأخذ في الجفاف، ثم ينتهي إلى أنْ يتحطّم ويتكسَّر‏.‏

‏{‏وَفِى الأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏‏.‏

لأهله من الكفَّار‏.‏

‏{‏وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ‏}‏‏.‏

لأهله من المؤمنين‏.‏

‏{‏وَمَا الْحَياَةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏‏.‏

الدنيا حقيرةٌ- وأحقرُ منها قَدْراً طالبُها وأقلُّ منه خَطَراً المزاحم فيها، فما هي إلا جيفة؛ وطالِبُ الجيفةِ ليس له خطرٌ‏.‏ وأخس أهل الدنيا مَنْ بَخِلَ بها‏.‏

وهذه الدنيا المذمومة هي التي تَشْغَلُ العبدَ عن الآخرة‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏21‏)‏ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ‏}‏‏.‏

أي سارِعوا إلى عَمَلٍ يوجب لكم مغفرةً من ربِّكم، وذلك العملُ هو التوبة‏.‏

‏{‏وَجَنَّةٍعَرْضُهَا‏}‏ ذَكر عَرْضها ولم يذكرْ طولها؛ فالطول على ما يوافيه العَْرضُ‏.‏

‏{‏أُعِدِّتْ لِلَّذِينَ ءَامُنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ‏}‏‏:‏ وفي هذا دليلٌ على أنَّ الجنةََ مخلوقة‏.‏

‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

وفي ذلك ردٌّ على من يقول‏:‏ «إن الجنة مُسْتَحقَّةٌ على الطاعات، ويجب على الله إِيصالُ العبدِ إليها»‏.‏‏.‏ لأن الفضلَ لا يكون واجباً‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا سمعت أسرار المؤمنين هذا الخطاب ابتدرت الأرواحُ مُقْتَضِيةً المسارعة من الجوارح، وصارت الجوارحُ مستجيبةً للمُطالَبةِ، مُستبشرة برعاية حقوق الله؛ لأنها علمت أن هذا الاستدعاءَ من جانب الحقِّ سبحانه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَآ أَصَابَ مِن مُّصِبيَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏‏.‏

المصيبة حَصْلةٌ تقع وتحصل‏.‏ فيقول تعالى‏:‏ لا يحصل في الأرض ولا في أنفسكم شيءٌ إلى وهو مُثْبَتٌ في اللوح المحفوظ على الوجه الذي سبق به العِلْم، وحقَّ فيه الحكم؛ فقبل أن نخلق ذلك أثبتناه في اللوح المحفوظ‏.‏

فكلُّ ما حصل في الأرض من خصبٍ أو جدبٍ، من سعة أوضيق، من فتنة أو استقامة وما حصل في النفوس من حزن أو سرور، من حياةٍ أو موت كلُّ ذلك مُثبت في اللوح المحفوظ قبل وقوعه بزمان طويل‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ‏}‏ دليلٌ على أن أكساب العباد مخلوقة لله سبحانه‏.‏ وللعبدِ في العلم بأنَّ ما يصيبه‏:‏ من بسطٍ وراحةٍ وغير ذلك من واردات القلوب من اللَّهِ- أشدُّ السرور وأتمُّ الإنْسِ؛ حيث عَلِمَ أنه أُفْرِدَ بذلك بظهر غيبٍ منه، بل وهو في كنز العَدَم، ولهذا قالوا‏:‏

سقياً لمعهدك الذي لو لم يكن *** ما كان قلبي للصبابة معهدا

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏23‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لِكَيْلاَ تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَاكُمْ‏}‏‏.‏

عَدَمُ الفرحة بما آتاهم هو من صفات المتحررين من رِقِّ النَّفْس، فقيمةُ الرجالِ تتبين بتغيُّرِهم- فَمَنْ لم يتغيَّرْ بما يَرِدُ عليه- مما لا يريده- من جفاءٍ أومكروهٍ أو محنة فهو كاملٌ، ومَنْ لم يتغيَّرْ بالمسارّ كما لا يتغير بالمضارِّ، ولا يَسُرُّه الوجودُ كما لا يُحْزِنُه العَدَمُ- فهو سَيِّد وقته‏.‏

ويقال‏:‏ إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد؛ فالتغيُّرُ علامةُ بقاء النَّفْس بأيّ وجهٍ كان‏:‏

‏{‏وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏‏.‏

فالاختيال من علامات بقاء النفس ورؤيتها، والفخرُ ‏(‏ناتجٌ‏)‏ عن رؤيةِ ما به يفتخر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ‏}‏‏.‏

بخلوا بكتمان صفة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وأمروا أتْباعَهم بذلك، وذلك لما خافوا من كسادِ سُوقِهم وبطلان رياستهم‏.‏

‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ‏}‏ عن الإيمان، أو إعطاء الصَدَقة ‏{‏فَإِِنَّ اللَّهَ هُوَالْغَنِىُّ الْحَمِيدُ‏}‏‏.‏

والبخلُ- على لسان العلم- مَنْعُ الواجب، فأمَّا على بيان هذه الطائفة فقد قالوا‏:‏ البخلُ رؤية قَدْر للأشياء، والبخيلُ الذي يُعْطِي عند السؤال، وقيل‏:‏ مَنْ كَتَبَ على خاتمه اسمه فهو بخيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ‏}‏‏.‏

أي أرسلناهم مُؤيَّدين بالحُجَجِ اللائحة والبراهين الواضحة، وأزَحْنا العِلَّةَ لِمَنْ أراد سلوكَ الحُجَّةِ المُثْلى، ويَسَّرنا السبيل على مَنْ آثَرَ اتّباعَ الهُدَى‏.‏ وأنزلنا معهم الكُتَبَ المُنَزّلةَ، و‏{‏الميزان‏}‏‏:‏ أي الحُكْمَ بالقرآن، واعتبار العَدْلِ والتسويةِ بين الناس‏.‏

‏{‏لِيَقومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏}‏‏:‏ فلا يَظْلِمُ أحدٌ أحداً‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏‏.‏

‏{‏أنزلنا الحديد‏}‏‏:‏ أي خلقنا الحديد‏.‏

ونصرة الله هي نصرةُ دينه، ونصرةُ الرسولِ باتِّباعِ سُنَّتِه‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزيزٌ‏}‏‏:‏ أقوى من أن يُنَزَعَه شريكٌ، أو يضارِعَه في المُلْكِ مليك، وأعزُّ من أن يحتاج إلى ناصر‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ‏}‏‏.‏

أي أرسنا نوحاً، ومن بعده إبراهيم، وجعلنا في نَسْلِهما النبوَّةَ والكتاب‏.‏

‏{‏فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ مستجيبٌ‏.‏

‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

خرجوا عن الطاعة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيل وَجَعَلَنْا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أرسلنا بعدهم عيسى ابن مريم‏.‏

‏{‏وَرَهْبَانَيِّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

بيَّن أنَّه لم يأمرهم بالرهبانيَّة بل هم الذي ابتدعوها ثم قال‏:‏

‏{‏إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

هم الذين انفردوا بما عقدوه معنا أن يقوموا بحقِّنا‏.‏

‏{‏فَئَاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهِ وَءَامَنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَّمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا‏.‏

‏{‏كِفْلَيْنِ‏}‏‏:‏ أي نَصِيبَيْنِ؛ نصيباً على الإيمان بالله، وآخَرَ على تصديقهم وإيمانهم بالرُّسُل‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَئ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

ومعناه‏:‏ يعلم أهل الكتاب، و«لا» صلة‏.‏ أي‏:‏ ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فإن الفضل بيد الله‏.‏ و«اليد» هنا بمعنى‏:‏ القدرة، فالفضلُ بقدرة الله‏.‏

والإشارة في هذا‏:‏ اتَّقُوا الله بحِفْظِ الأدبِ معه، ولا تأمنوا مَكْرَه أن يَسْلَبكم ما وَهَبَكم من أوقاتكم‏.‏ وكونوا على حَذَرٍ من بَغَتَاتِ تقديره في تغيير ما أذاقكم من أُنْسِ محبته‏.‏

واتَّبِعوا السُّفَراء والرُسُل، وحافظوا على اتِّباعهم حتى يُؤتِيَكُم نصيبين من فضله‏:‏ عصمةً ونعمةً؛ فالعصمة من البقاء عنه، والنعمة هي البقاء به‏.‏

ويقال‏:‏ يؤتكم نصيبين‏:‏ نصيباً من التوفيق في طَلَبِه، ونصيباً من التحقيق في وجوده‏.‏